الوضع الحالي للصناعة، مشاكلها ومستقبلها

الوضع الحالي للصناعة، مشاكلها ومستقبلها

بسم الله الرحمن الرحيم

صناعة الأنيمي حالياً ربما تكون في أفضل حالاتها. الأنيمي يحظى بشهرة كبيرة ونجاح عالميّين وأرباح الصناعة تتزايد بشكل ثابت على مدى السنين الأخيرة، لكن الصناعة تعانى من مشاكل عويصة متجذرة وتواجه العديد من التحديات، وهو الأمر الذي قد يدفع بالصناعة لتتغير، على المدى البعيد أو حتى القريب. قبل فترة قصيرة من بدايتي في كتابة هذه التدوينة، عُرضت حلقة خاصة على قناة NHK اليابانية عن بيئة العمل السيئة في الصناعة وعيوب أخرى، وهو ما أثار جدلاً واسعاً في وسائل التواصل بين اليابانيين وبالأخص ممّن في الصناعة حول مشاكلها وعيوبها، وهو ما دفعني بشكل أساسي لكتابة هذه التدوينة التي كنت أفكر في كتابتها منذ فترة. أود في هذه التدوينة أن أتكلم عن الوضع الحالي للصناعة ومشكلاتها، أذكر بعض التطورات الأخيرة، وأبين كيف قد تتطور وتتغير الصناعة في المستقبل. هذه التدوينة قد تكون طويلة ومعقدة أكثر من معظم تدويناتي الأخرى، فأنا أتكلم عن صناعة هائلة تقدر بالمليارات في النهاية.

حتى نفهم الوضع الحالي، يجب أن نعود للوراء بضع عقود ونلقي نظرةً على ولادة صناعة الرسوم المتحركة التلفازية في اليابان كما نعرفها. أوائل الستينات، اوسامو تيزوكا – Osamu Tezuka كان قد انتهى من عمله مع توي أنيميشن على فيلم يقتبس إحدى المانجات التي ألّفها، إلا أن تيزوكا لم يكن راضياً بالنتيجة ويقال أنه جرت خلافات بينه وبين العاملين في توي بخصوص الاقتباس هذا. بعد هذا بفترة قصيرة، اجتمع مع مجموعة من الصنّاع الآخرين لينشئوا “موشي برودكشن” – Mushi Production، حيث لـتيزوكا حرية أكبر في إنتاج ما يحلو له. تيزوكا آنذاك كان بالفعل أشهر من نارٍ على علم، بفضل المانجا التي يرسمها، لكن أبرز ما قدمه تيزوكا هو العمل الذي سينتجه في موشي في تلك الفترة.

حتى ذلك الوقت اقتصرت أعمال الرسوم المتحركة في اليابان على الأفلام بشكل عام، بقيادة استديو توي أنيميشن(توي دوغا آنذاك). فكرة إنتاج أنيمي يعرض على التلفاز بنظام حلقات أسبوعي كانت فكرة سخيفة نظراً لصعوبة تحقيقها وصعوبة تحقيق ربح مادي من هذه العملية، لكن هذا لم يمنع تيزوكا من البدء في إنتاج العمل الأيقوني آسترو بوي – Astro Boy. حتى ينجح تيزوكا بفكرته كان عليه الخروج عن النظام المعتاد لصناعة الرسوم المتحركة اليابانية في ذلك الوقت، أولاً كان يجب اختصار العديد من الأمور التي تتطلب وقتاً وجهداً، مثل عدد الإطارات في الحلقة وهو ما أدى إلى كون الحركة في أنيمي آسترو غريبة وغير سلسة، وأيضاً تم استعمال “بنك” للحركة والوضعيات كي يتم استعمال الوضعيات ذاتها أكثر من مرة دون الحاجة لرسمها من جديد وغيرها. كان يجب على الرسامين العمل بشكل مكثف بسبب ضغط إنتاج الحلقات بشكل متواصل أسبوعياً، إلا أن معاملة تيزوكا للرسامين ورواتبهم لم تكن سيئة. كما تم التخلي عن كثير من أساسيات الرسوم المتحركة التي وضعتها ديزني وكانت غالباً ما تستعمل في أعمال توي وبعض الأعمال اليابانية الأخرى من تلك الفترة. في المجمل، كان آسترو بوي عملاً بدائياً وبسيطاً وبالأبيض والأسود.

لاحظ الحركة الغير سلسلة وقلة الإطارات

تيزوكا نفسه لم يتوقع النجاح الهائل لآسترو بوي، والذي كان له تأثير الدومينو على الشركات الأخرى في الصناعة حيث بدأت تنتج الأنيمي المتلفز واحدةً تلو الأخرى وفقاً للأسس التي وضعها تيزوكا. تيزوكا أيضاً كان له الفضل في وضع النموذج الذي سارت عليه صناعة الأنيمي المتلفز حتى الآن، وهو أن يكون الأنيمي مبنيّاً أو مرتبطاً بمنتج معين، بالأخص المانجا، فمانجا آسترو بوي كانت أكثر المانجات شهرةً ومبيعاً بعد عرض الأنيمي وطوال الستينات، والأمر كذلك بالنسبة لمانجا تيتسوجين – Tetsujin 28 بعد عرض الأنيمي الخاص بها(الذي عرض بعد آسترو بوي بفترة قصيرة).

الآن فلنقفز عدة عقود في الزمن. أصبحت التفاصيل في الأنيمي المتلفز أكثر، زادت الخطوط والمؤثرات وتفاصيل الرسم، لا أعرف إن كنت قد رأيت إطاراً من عمل ستيني أو سبعيني، لكن التفاصيل فيها ضئيلة، ويمكنك رؤية الفرق بوضوح بينها وبين إطار من عملٍ حديث. تطور التلفاز وأصبح ملوناً، وعملية التلوين(اليدوي) من العمليات الصعبة، مجملاً أصبح الأنيمي المتلفز يتطلب المزيد من الجهد والوقت، وهنا بدأت المشاكل. عندما تنتج عملاً ببساطة آسترو بوي أو ببساطة الأعمال المتلفزة السبعينية وحتى بعض الثمانينية، لن تحتاج إلى العديد من الأشخاص أو الكثير من الجهد والوقت، وهو السبب في كون أسماء الشارة في الأنيميات القديمة قصيرة ولا تحوي الكثير من الأشخاص، مقارنةً بـ”جيوش” الرسامين والعاملين الذين نراهم في أسماء الشارة للأنيميات الحالية. مع زيادة متطلبات ومعايير الأنيمي أصبحتَ بحاجةٍ للمزيد من الأشخاص لإنجاز العمل ذاته في الوقت ذاته.

المشاكل الحالية للأنيمي المتلفز

نظام تيزوكا الذي استعمله في إنتاج آسترو بوي قبل أكثر من 50 عاماً يصعب تطبيقه على أعمال تفاصيلها أدق ومعاييرها الإنتاجية أعلى بكثير، لا أعني أنه يوجد طريقة أخرى مختلفة تماماً لإنتاج الأنيمي لكن المشكلة في الصعوبة البالغة لإنتاج أنيمي متلفز. لا عجب أن أحد الأعمال التي زادت أهمية الجودة والتفاصيل في الأنيمي المتلفز، إيفانجليون – Evangelion، كان يعاني من مشاكل بالغة في الجدولة والوقت. ومع الزمن وزيادة العاملين على كل حلقة من كل أنيمي بدأت استديوهات اليابان تحاول حل المشاكل التي خلقها نظام الإنتاج هذا، مثل مشكلة الفرق الشاسع في أساليب الرسم عندما يكون لديك 10 رسامين أو أكثر يعملون على رسم حلقة واحدة، وذلك بجعل مشرف الرسوم يقوم بتصحيح الرسوم (هناك أدوار غيره تم ابتكارها لمشاكل مشابهة). لكن الحلول هذه تخلق مشاكل أخرى، مثل زيادة كلفة الإنتاج أو زيادة الوقت الذي يستغرقه إنتاج الحلقة. هذه الحلول أصبحت عديمة الجدوى في كثيرٍ من الأعمال، عندما يصبح الوقت ضيقاً لدرجة لا تسمح لمشرف رسوم واحد أن يصحح عمل الرسامين كلهم، فنرى 10 مشرفين أو أكثر مع شخص مهمته تصحيح الاختلافات في رسم المشرفين أنفسهم(وهو ما يسمى بــمشرف الرسم العام)، الشق أصبح أوسع من الرقعة كما يقال.

أما من ناحية العاملين أنفسهم، ولنتكلم بالأخص عن الرسامين، سابقاً كان يمكنك رسم العديد من المشاهد لأنه وكما قلت كانت التفاصيل والخطوط أقل، لكن مع التفاصيل والعديد من الخطوط يصبح الرسام غير قادرٍ على رسم الكمية ذاتها من المشاهد، لهذا أنت بحاجة للمزيد من الرسامين لإنهاء الحلقة ذاتها التي كنت تنهيها سابقاً بعدد أقل. ومع بقاء الميزانية دون تغيير تقريباً، سيتم توزيع المال على عدة رسامين بدلاً من رسام واحد، وذلك لأن النظام المتبع في أجور الرسامين مبني على عدد المشاهد التي يرسمها. المبلغ الذي يحصل عليه الرسام لم يتغير كثيراً، لكن التغيير الأكبر هو في عدد المشاهد التي يمكن للرسام الواحد رسمها.

ضيق الوقت يجلب مشكلةً أخرى للعاملين، أحياناً ستضطر إلى أن تعمل وتأكل وتنام على مكتبك في الاستديو حتى تنجز العمل في الوقت المحدد. هذا الأمر لا يقتصر على الرسامين فحسب بل هو شائع بين جميع الوظائف، وليس أمراً نادر الحدوث. وهناك أدوار في الصناعة تواجه هذه المشاكل بدرجة أكبر حتى، مثل رسامي البينيّات، فالأجر الذي يحصلون عليه مقابل الرسمة الواحدة لا يكاد يذكر(دولاران مقابل الرسمة الواحدة) وغالباً يعملون في ظروف سيئة. ونظراً لكون هذا الدور (رسام البينيّات) يعد دوراً تأهيلياً كي يحصل الرسام على الخبرة وينتقل للعمل كرسّام مفتاحي، هذا يؤدي إلى معاملة بعض الرسامين الذين لا ينجحون في الترقي إلى دور الرسّام المفتاحي معاملةً سيئة كما لو أنهم يريدون حثهم على الاستقالة وترك العمل. يبرز هذا الأمر خاصةً عندما يكون لدى الاستديو برنامج تدريبي وتأهيلي لــرسامي البينيّات، وهو برنامج موجود في عديدٍ من الاستديوهات الكبيرة مثل P.A. Works وPierrot يوفر للرسامين الجدد مكاناً للاقامة والتدريب وأمور أخرى لتوفير بيئة أفضل لهم. من الأمثلة القريبة رسامة بينيّات كانت تعمل لدى P.A. Works حيث وفّروا لها السكن وأمور أخرى، لكن بعد أن قضت 3 سنين بقيت فيها دون ترقية بدأ الاستديو يعاملها معاملة سيئة، يرغمها على تنظيف الحمامات ويخصم من راتبها ويضيق عليها بوسائل أخرى. وأرى أنه لا يجب إلقاء كل اللوم على P.A. Works بسبب فعلهم هذا (على أن ما قاموا به كان غير مقبولاً بالطبع)، لقد حصلت هذه الرسامة على فرصتها وظهر أنها لا تملك الموهبة فلا فائدة من الصرف عليها ورعايتها، كما أن ما قام به P.A. Works ليس أسوء من الطريقة التي يعامل بها رسامو البينيّات في الصناعة. مشكلة الرسامين أكبر من حصرها على P.A. Works أو استديو آخر بعينه، بل المشكلة عامة على الصناعة ونظرتها لرسام البينيّات خاصةً على أنه مجرد دور تدريبي وتأهيلي حتى يترقّى الرسام إلى وظيفة أعلى، إلا أنه يمكن النظر إلى هذه الوظيفة على أنها وظيفة مستقلة يمكن الترقية منها أو البقاء فيها سنين طويلة، وهو ما يراه بعض العاملين في الصناعة مثل ميتسو إيزو – Mitsou Iso وغيره.

كثرة المشاريع أيضاً مشكلة كبيرة تعاني منها الصناعة، اليابان حالياً تنتج عدداً هائلاً من الأعمال المتلفزة وغير المتلفزة، لدرجة أن عدد الأيدي العاملة في صناعة الأنيمي بالكاد يغطي الطلب، وهو ما يزيد من مشاكل الوقت وبيئة العمل التي ذكرتها آنفاً سوءاً. مع هذا، لا يبدو أن عدد الأعمال التي يتم إنتاجها كل سنة سوف يتناقص. بين عامي 2010 و2015 زاد عدد الأنيميات المتلفزة بحوالي 150 عمل، دون ذكر أنواع الأعمال الأخرى التي في ازدياد أيضاً. ومع أنه لا مؤشر على أن هذه الأعداد ستتناقص في السنين القادمة، إلا أن وتيرة ازديادها انخفضت، ويبدو أن الصناعة وصلت إلى الحد الأقصى من الأعمال التي يمكن أن تنتجها كل سنة نظراً لقلة العاملين وكثرة الذين يتركون الصناعة، لكنه ما زال عدداً كبيراً يسبب العديد من الصعوبات. هذا العدد الضخم من الأعمال وتزايده يقودنا لنقطتي التالية، وهي لجنة الإنتاج.

جدول بعدد الأعمال التلفازية المنتجة كل سنة

لجان الإنتاج وعيوبها

قبل الخوض في كل العيوب والانتقادات التي تنال لجان الإنتاج، هذا النظام حسّن أمور كثيرة في الصناعة وله فوائد عديدة. توزيع المخاطرة في الاستثمار في الأنيمي على عدة شركات بدلاً من شركة واحدة، وتسهيل تمويل المشاريع، كما سهل مشاركة العديد من الشركات الأخرى بمختلف الأنواع في الصناعة، مثل شركات الموسيقى ووكالات الآيدول التي لها وجود وتأثير قوي في الصناعة أكثر من أي وقت مضى. لكن هذا النظام أوجد مشاكل أخرى في الصناعة وهو محل انتقاد من قبل كثيرٍ من العاملين في الصناعة لأسباب عديدة.

من أبرز الأشياء التي تنتقد بسبها لجان الإنتاج هي التسبب في زيادة عدد الأنيميات ونظامها في الاحتكار. الشركات في لجان الإنتاج تحاول إبقاء نسبة معينة من ملكيتها للأنيمي. بمعنى أنه لو كانت الشركة المترأسة للمشروع (رئيسة اللجنة، المنتج عادةً) تدير مشروعاً معيناً، وجمعت مبلغ نصف مليار ين للمشروع، ستكون ميزانية المشروع مليار ين على الأكثر، وذلك حتى تبقي على نسبة 50% من ملكيتها للأنيمي هذا (الأرقام ليست دقيقة). وهذا من أبرز الأسباب التي أدت إلى الزيادة الكبيرة في أعداد الأنيميات. ولهذا حتى لو ازدادت الأموال التي تضخ في الصناعة من الخارج (من الصين مثلاً)، هذا لن يغير الكثير، حيث ستقوم شركة الإنتاج اليابانية بتوزيع الأموال الصينية على عدة مشاريع بدلاً من استعمالها في مشروع واحد صيني بالكامل.

ولو كنت تظن أن الأرباح الكبيرة والمتزايدة للصناعة خارج اليابان(في الصين مثلاً) ستحسن الوضع، فهذا قد لا يكون صحيحاً تماماً. العديد ممن في الصناعة طالبوا بزيادة ميزانيات الأنيمي، منهم مخرج FMA: Brotherhood ياسوهيرو إيري – Yasuhiro Irie*، لكن شركات الإنتاج لا تريد زيادة ميزانيات المشاريع، نظراً لأن الكثير من المشاريع بالميزانيات الحالية لا تحقق أرباحاً وفيها مجازفة، فكيف لو زادت الميزانية وكانت المخاطرة أكبر؟ فبدلاً من الإبقاء على عدد الأعمال نفسه وزيادة ميزانياتها، سيزيد عدد الأعمال وتبقى الميزانية على حالها، وهو ما يؤدي(بالإضافة إلى الفقرة السابقة) إلى بقاء ظروف العمل السيئة والرواتب المنخفضة أو حتى زيادة الأمر سوءاً، على الرغم من زيادة الدخل والأموال التي تضخ في الصناعة. كما أن الأموال التي تجنيها الصناعة من الخارج ليس لها تأثير بارز على الاستديوهات، حيث وعلى الرغم من زيادة أرباح الأنيمي خارج اليابان بحوالي 250 مليار ين، أرباح الاستديوهات اليابانية في الخارج لم تزد أكثر من 15 مليار ين في تلك السنة، هذا يعود إلى عدم حصول معظم الاستديوهات في الصناعة على حصة من أرباح الأنيمي في الخارج لأنهم لم يستثمروا في الأنيمي بالإضافة إلى أسباب أخرى.

أرباح صناعة الرسوم المحركة في اليابان كلها(بالأعلى) مقارنةً بأرباح استديوهات الأنيمي في اليابان(بالأسفل). جودة كاملة

أما بالنسبة لـ”ـمغامرات” نيتفلكس في الصناعة وما شابهها، فهي أيضاً لن تحدث أي تغييرٍ ملحوظ. نظام إنتاج الأنيمي المبني على لجان الإنتاج كالطريقة الوحيدة للاستثمار في الأنيمي نظام احتكار في المقام الأول، ولو لم تكن الشركة التي تريد الاستثمار معروفة في الصناعة أو على علاقات وطيدة وثقة متبادلة مع شركات اللجنة، لن يسمحوا لها بدخول اللجنة. وشركة مثل نيتفلكس حديثة العهد في هذا المجال لا تملك هذا بالطبع، وفي النهاية شركة بحجمها (أو أي شركة ضخمة أخرى مثل أمازون) لن تنصاع لشركات الإنتاج اليابانية وشروطها بشكل تام حتى تنال رضاهم، لذا غالباً تقوم نيتفلكس بالاعتماد على قوتها المالية الهائلة وتتواصل مع شركة إنتاج (Aniplex مثلاً) ليقوموا هم بإدارة المشروع الذي يكون بميزانية أكبر من المعتاد. يمكنك رؤية كيف أن هذه حالة خاصة بامتياز ولن تغير شيئاً.

ومع أن بعضاً من العاملين في الصناعة يطالبون بتغيير نظام لجان الإنتاج، معظم العاملين يرون أنه لا غنى عنه، خاصة للعاملين على الأنيميات الموجهة للبالغين. إنتاج الأنيمي لم يتم دائماً بواسطة لجنة إنتاج وبالنظام المعروف حالياً، كل الأنيميات حتى أوائل التسعينات/أواخر الثمانينات كانت بلا لجان إنتاج حيث تمول شركة واحدة الأنيمي بالكامل(عادة صانع ألعاب أو ناشر مانجا). تلك الشركة ستُخضع صنّاع الأنيمي(الاستديوهات) لسلطتها لتتأكد من أن الأنيمي يلائم المنتج الرئيسي الذي تبيعه تلك الشركة، والذي يكون موجهاً للأطفال. هذا الحال تغير مع لجنة الإنتاج، التي أعطت حرية أكبر لصنّاع الأنيمي في صناعة ما يحبونه بدلاً من الخضوع لتسلط شركة واحدة ممولة، حرية في إنتاج أعمال للبالغين لا تلائم الأطفال يكون فيها المنتج الرئيسي هو الأنيمي(الأقراص). هذا التوجه ما زال مستمراً حتى اليوم عندما تخطى عدد الدقائق التي تم إنتاجها في الأعمال الليلية(الموجهة للكبار) عدد الدقائق التي تم إنتاجها في الأعمال الصباحية(الموجهة للصغار) وذلك لأول مرة في عام 2015. تحسن جودة الأنيمي المتلفز وزيادة مبيعات الأقراص ومشاكل اليابان الاقتصادية في التسعينات ساعدت في هذا، لكن لجنة الإنتاج ونظامها كانت العامل الأساسي.

عدد دقائق الأنيمي المتلفز التي تم إنتاجها منذ عام 1963. الأعمال الليلية رمادي فاتح والصباحية رمادي غامق

الحل الأمثل بالطبع هو خفض عدد الأعمال التي تنتجها الصناعة، لكن الأمر ليس بهذه البساطة كما بيّنت. والاستغناء عن لجان الإنتاج أمرٌ غير وارد لأنها أفضل طريقة لإنتاج الأنيمي على الرغم من عيوبها. في السبعينات، كان يمكن الحكم على الأنيمي كاملاً بأنه غير مربح فقط لأن ألعاب الأنيمي لم تبع جيداً، وقد يتسبب هذا بإلغاء الأنيمي مثلما حصل مع Mobile Suit Gundam 79، أما الآن تنوعت مصادر الدخل وأصبح من الأسهل بكثير تحقيق الربح. لكن حل العديد من مشاكل الصناعة قد لا يكون في الاستغناء عن اللجنة، بل في تحسينات أخرى سأحاول استعراضها هنا.

بعض الحلول

أبرز المشاكل للصناعة ربما هي وظيفة رسام البنييّات وكل ما يتعلق بها، من الراتب المنخفض والعمل المجهد. أبرز الحلول الممكنة لهذه المشكلة هو الاستغناء تماماً عن هذه الوظيفة، وتوكيلها إلى برامج الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي. أبرز برنامج حالياً يقدم هذه الخاصية هو كاكاني – CACANi، وقد تحدثت عنه مسبقاً هنا. تقنية البينيّات الآلية ليست حديثة تماماً لكن ما زالت سيئة ولا تقارن بالبينيّات اليدوية، وتنتج حركة آلية. إلا أن كاكاني أحرز تقدماً جيداً فيها وهو ما يبشّر بأنه يمكن لكاكاني الوصول لمستوىً يكافئ الرسم اليدوي تقريباً. الاستغناء عن رسامي البينيّات ليس أمراً صعباً نظراً لأن عملهم لا يحتاج إلى مهارات فنية عالية بل هو في معظمه مجرد اتباع لتعليمات رسام المفتاحيّات، ويصعب التفريق بين رسام البينيّات الجيد من السيئ لذا قد يمكن لكاكاني أو برامج غيره الوصول لمستوىً يصعب التفريق بينه وبين عمل رسام البينيّات البشري حتى لو كان البشري أفضل.

فيديو قصير رسمت البينيّات فيه آلياً باستعمال كاكاني

على الرغم من كل هذا ما زالت وظيفة رسام البينيّات لها أهمية كبيرة في الصناعة خاصة باعتبارها مدخلاً للرسامين الجدد إلى الصناعة. رؤية عمل الرسّامين المفتاحيّين الأكثر خبرة والتدرب في عمل ليس صعباً نسبياً يكسبان الرسام خبرةً ومهارةً من الصعب تعويضهما حتى لو خضع لدورة تدريبية أو ما شابه. بعض العاملين في الصناعة يرون هذا في الرسامين الذين بدؤوا مباشرة كرسّامين مفتاحيّين، بأنهم يفقدون شيئاً ما لأنهم لم يختبروا مرحلة الرسم البيني من قبل. بالإضافة إلى أن العديد يفقترون إلى المهارة الكافية للبدء كرسّام مفتاحي منذ البداية، دون ذكر الأشخاص الذين سيفقدون عملهم عندما يحل الكمبيوتر مكانهم أو المشاكل الأخرى التي قد تخلقها البينيّات الآلية.

بعض هذه المشاكل ليست مستعصية الحل على أية حال، تعديلات مثل إضافة دورة تدريبية للرسامين الجدد(وهو موجود بالفعل في استديوهات عدة) عوضاً عن تجربة الرسم البيني، وضع مشرف على البينيّات الآلية حتى يصححها ويعدلها لتصبح أفضل(يوجد مشرف رسوم بينيّة بالفعل في الصناعة لكن قد يكون بحاجة لبعض التغييرات). وهذه العيوب لا تطغى على المنافع التي قد تجلبها البينيّات الآلية، أبرزها توفير الوقت خاصة في صناعة تعاني من ضغط في الجدولة ووقتٍ قصير، والثاني توفير المال. هذا المال الذي سيتم توفيره يمكن إنفاقه على الدورات التدريبية التي ذكرتها، أو في تحسين رواتب العاملين في الصناعة.

وعلى الرغم من تركيزي على جانب البينيّات الآلية من كاكاني لأنه الأهم، يوجد لدى هذا البرنامج خاصيات أخرى مفيدة وتختصر الوقت، منها التلوين الآلي(تلوين إطار واحد والبرنامج يقوم بتلوين الباقي آلياً بدلا من تلوينها كلها)، أو تنعيم وتنظيف الخطوط الخشنة آلياً أيضاً. ليست مثالية لكن مع الوقت يمكن أن تتحسن كثيراً مثل البينيّات الآلية. كل هذا مع التحول إلى بيئة عمل رقمية بالكامل (وهو ما تحدثت عنه بالتفصيل هنا) سيساعد في تسهيل العمل وتوفير الوقت وتحسين بيئة العمل.

هناك ناحية أخرى مهمة، ما هي الاختلافات الظاهرية التي يمكن أن تحصل إذا انتقلت الصناعة إلى طريقة أخرى لإنتاج الأنيمي؟ بالنسبة للرسم الرقمي(بواسطة التابلت) فهو أمرٌ مستعمل بالفعل وعلى نطاق واسع في الصناعة ولا يشكل فرقاً واضحاً. قد يعتقد البعض أن الثري دي سينتج مظهراً مختلفاً تماماً عن مظهر الأنيمي المعتاد، هذا صحيح بنسبة كبيرة، لكن بعض الأعمال استطاعت إحضار أسلوب ومظهر الأنيمي إلى الثري دي بشكلٍ جيدٍ جداً. أبرز الأمثلة ربما هو الفيديو القصير الذي أنتجه استديو هيدياكي آنو Khara بتقنية ال3DCG بالكامل ضمن مبادرة Animator Expo بعنوان Cassette Girl.

لكن تقنية الثري دي، التي يتزايد استعمالها في الصناعة، لا يمكن لها أن تحدث تغييراً شاسعاً. الثري دي الذي نراه معظم الأحيان في الأنيمي، في السيارات أو حشود البشر، هو من النوع الرخيص. أي أنه لا يحتاج لوقتٍ طويل أو تكلفة عالية وجودته منخفضة، بعكس الثري دي الذي يمكن أن تراه في أعمال ديزني مثلاً. هذا النوع الرخيص لا يمكن أن يصبح الطريقة الرئيسية لإنتاج الأنيمي بالطبع، ولو نظرنا إلى ثري دي ديزني الباهظ فهذا أيضاً غير مناسب لأسباب عدة.

لو أعطيت أي أحدٍ قلماً وورقة سيصبح لديك رسام (بغض النظر عن مهارته)، ويمكن لهذا الشخص تعلم كمّ هائل من أساسيات ومهارات التحريك بالتجربة والخبرة فقط. هذا لا ينطبق على رسامي الثري دي، فحتى لو أمّنت جهاز كمبيوتر وبرنامج رسم (الباهظي الثمن) لا يمكن لأي شخص استعمالهما حتى يرسم، بل يجب أن يكون لديك شخصٌ متدرب ومتمرس في هذه البرامج حتى ينتج لك نتيجة مرضية. النظام الحالي للصناعة مبني على سهولة الانضمام وبدء العمل كرسّام، والتعلم من التجربة وسؤال الرسامين الأكثر خبرة، تطبيق الثري دي في صناعة كهذه لن ينجح، دون ذكر التكاليف المادية المرتفعة والوقت الطويل الذي يحتاجه إنتاج عمل ثري دي بجودة عالية. من الجدير بالذكر أن هذا الكلام لا ينطبق على الرسم الرقمي، ويعتبر البديل الأمثل للرسم الورقي.

قد أكون مخطئاً، العديد من الأشخاص القديرين في الصناعة يميلون إلى الثري دي أكثر فأكثر مؤخراً، مثل تاكاشي ناكامورا – Takashi Nakamura الذي عمل على فيديو قصير (ربما إعلان) تم إنتاجه بتقنية الثري دي كاملاً دون ذكر استعماله الواسع لهذه التقنية في آخر أفلامه Harmony، ومثل هيدياكي آنو – Hedeaki Anno واستديو Khara الخاص به الذي يستعمل السي جي والثري دي بشكلٍ كثيف بالإضافة إلى إعلانه عن استديو جديد باسم Studio Q يركز فقط على الثري دي. لا أعلم ما الذي يراه أولئك الأشخاص في الثري دي، ربما الثري دي هو بالفعل مستقبل الصناعة؟ سواءً انتقلت الصناعة إلى الثري دي أو الإنتاج الرقمي بالكامل، من شبه المؤكد أنه لا مستقبل للصناعة الورقية.

الصناعة تعاني من مشاكل عديدة وصلت إلى مرحلة يصعب تحملها وتجاهلها أكثر. ولا يمكن تحديد أمرٌ معين بأنه الحل فالأمر ليس بهذه البساطة، لكن هناك تغيرات كثيرة بدأت تحصل في السنين الأخيرة ومبادرات من عدة استديوهات لتحسين الوضع، كما أنه ليس من المستحيل أن يتم إيجاد بيئة عمل جيدة وصحية في ظل الوضع الراهن للصناعة (أبرز الأمثلة قد تكون كيوتو أنيميشن وغيبلي سابقاً). على الرغم من هذا، هذه التغيرات والمبادرات قد لا تكون كافية، قد تكون الصناعة بحاجة إلى تغير جذري، ربما الصناعة متجهة إلى هذا التغيير بشكلٍ حتمي في السنين القليلة القادمة وسنرى حدثاً يحدث تغيراً هائلاً في الأنيمي والصناعة من أساسها. حتى ذلك الحين سيكون لنا لقاءٌ آخر.