عمليتا الإنهاء والتصوير في الأنيمي الحديث

عمليتا الإنهاء والتركيب في الأنيمي الحديث

بسم الله الرحمن الرحيم

أود اليوم الحديث عن موضوعٍ من أهم المواضيع في الأنيمي الحديث، والذي على الرغم من أهميته لا ترى الكثيرين، من ضمنهم أنا، يتحدثون عنه بالقدر الكافي، وهو التركيب أو Composition. سأحاول في هذه التدوينة الإجابة على عدة أسئلة من ضمنها: ما هي هذه العملية؟ ما أهميتها؟ ما الفرق بين عمليتي التصوير والإنهاء في الأنيمي؟ وغيرها من الأسئلة المهمة.

ربما السبب في كون هذه العملية محاطةً بالغموض بعض الشيء أو في قلة الإهتمام بها من طرف متابعي الأنيمي هو كونها من العمليات المملة الروتينية، خاصةً لو قارنتها بوظائف أخرى مثل الإخراج أو التحريك أو رسم الشخصيات، وهذا ما يٌجحف بحق عملية التركيب، فهي من أهم المراحل في عملية إنتاج الأنيمي وتزيد أهميتها كل يوم مع زيادة إشراك الكمبيوتر في العملية الإنتاجية كما سنرى بعد قليل. قبل أن أدخل في تفاصيل موضوعنا اليوم أريد توضيح ما أقصده بكلمة “تركيب” أولاً. في إنتاج الأنيمي يتّخذ رسم الشخصيات ورسم الخلفيات مسارين مختلفين منفصلين عن بعضهما، وعندما ينتهي رسم كل عناصر المشهد تأتي مرحلة جمع هذه العناصر المختلفة معاً بشكلٍ متّسق، وهي مرحلة تتضمن أكثر من عملية وسأطلق عليها كلها مرحلة “التركيب”، مع العلم أن المصطلحات الإنتاجية المستعملة في صناعة الأنيمي تختلف كثيراً أحياناً وقد تفتقر لبعض الدقة خاصةً في المجالات التي قلّ توثيقها كما هو الحال هذه المرة.

يفترض بنا البدء في القرن العشرين وإلقاء نظرةٍ سريعة على الطريقة التي كانت تتم بها هذه العملية في الأنيمي القديم قبل دخول الكمبيوتر، فالكمبيوتر كان تأثيره الأكبر على هذه المرحلة الإنتاجية تحديداً حيث استبدل كل الأدوات والأساليب المستعملة قديماً بشكلٍ شبه كلي، لكن إن كنت مهتماً بهذا الأمر فقد تحدثت عنه بالتفصيل في هذه التدوينة. باختصار كانت تُجمع الخلفيات مع الشخصيات عن طريق وضعها فوق بعضها وتصويرها باستعمال كاميرا حقيقية، مع إضافة المؤثرات المطلوبة بالتلاعب مباشرة بالرسومات بشكلٍ أو بآخر.

ولكن بعد دخول الكمبيوتر لم يعد هناك حاجة للكاميرات والمؤثرات اليدوية، فكل ما يجب عليك فعله هو مسح (scan) الرسومات كلها وجمعها باستعمال برامج مثل Adobe Aftereffects وتطبيق المؤثرات المطلوبة عليها ببرامج تحرير الصور المتعددة. هذا غيّر المهارات التي يحتاجها أفراد طاقم التصوير بالكامل وفتح آفاقاً جديدة للأنيمي لم تكن ممكنة من قبل، وربما كان السبب في زيادة الفارق بين ما يسمى بعملية “الإنهاء”، والتي تتضمن مسح الرسومات إلى الصيغة الرقمية ومعالجتها لتكون جاهزةً للتلوين ومن ثم تلوينها، وعملية “التصوير”، وهي العملية التي تركز على إضافة المؤثرات والعناصر الإضافية للرسومات التي تكسبها المزيد من العمق والجمال.

عملية الإنهاء (Shiage – 仕上げ)

سابقاً كانت تنسخ الرسومات إلى ما يسمى أوراق السيلولويد باستعمال تقنية اسمها “الزيروكس” حتى يتم تلوينها، لكن ولأن التلوين أصبح رقمياً الآن لم تعد هناك حاجةٌ لاستعمال أوراق السيلولويد، وأصبحت نوعية الأوراق المستعملة في رسم الشخصيات أهم، حيث أن جودة الرسومات الرقمية تعتمد مباشرةً على حجم الرسومات (أو حجم الأوراق) الأصلية. تُستعمل حالياً أوراق الـA4 في كل الأنيميات الحديثة، بينما يقال أن الانتقال إلى جودة 4K يستلزم الانتقال إلى أوراق الـA3 ذات ضعف الحجم.

بعد مسح الرسومات يبدأ العمل الفعلي، فالرسومات أول ما تنقل للكمبيوتر تحوي الكثير من الشوائب والعيوب بسبب الجهاز المستعمل لمسحها أو بسبب طبيعة هذه التقنية، ما يستلزم تنقيحها. تبدأ عملية التنقيح بتطبيق عمليةٍ رقمية تسمّى “مستوى العتبة” أو Threshholding – 二値化، والتي ينتج عنها صورةٌ عالية التباين بين خطوط الرسمة والخلفية، ما يفصِل خطوط الرسمة الملوّنة عن الخلفية البيضاء تماماً. 

الصورة السابقة توضّح شكل الرسمة بعد مسحها مباشرةً، وتقارنها بالرسمة النهائية بعد التنقيح. توجد عدة ملاحظات جديرة بالذكر هنا، أولها هو أن نتيجة عملية “مستوى العقبة” تحوي بعض الخطوط المتقطعة والخطوط الخشنة التي تحتاج للمزيد من التحسين يدوياً. ثانياً يبدو أن بعض استديوهات الأنيمي تستعمل كلمة “سيل” أو セル، والتي كانت ترمز إلى أوراق السيلولويد سابقاً، للرمز إلى الرسومات البيضاء الجاهزة للتلوين الآن (في الصورة على اليمين). مسح الشوائب المتبقية وتصحيح خطوط الرسم يتم بعدها يدوياً، وكما تتوقع فهذه عمليةٌ روتينية تحتاج لبعض الوقت، إلا أنها مهمة جداً. يجب مثلاً إكمال كل الخطوط الناقصة حتى يتمكن فريق التلوين من القيام بعملهم لاحقاً، فالأداة المستعملة في تلوين الأنيمي تشبه أداة “الدلو” في برنامج الرسام، وستفهم مقصدي إن كنت استعملتها مرةً في حياتك.

بعد هذا تأتي عمليةٌ مهمة وأساسية من عمليات مرحلة الإنهاء، وهي عملية فصل عناصر الرسمة المختلفة حسب طريقة تلوينها. توجد عدة أسباب لفصل أجزاءٍ مختلفة من الرسمة عن بعضها، أبرزها هو فصل الأجزاء المتحركة (مثل الشفاه) عن الأجزاء الثابتة، لكن بعض عمليات الفصل ليس بديهياً وقد يتسبب ببعض المشاكل. مثلاً، من المفاهيم التي تسبب المتاعب للرسامين الجدد خاصةً مفهوم الـ”ـكتاب” أو Book (لا أعلم سبب التسمية)، وهي أجزاء من الخلفية تتداخل مع الرسومات فتصبح بعضها أعلى منها وبعضها أسفل. انظر للمثال التالي.

نرى في المثال شخصيةً تجلس على طاولة واضعةً يديها عليها. بالطبع، الطاولة جماد لهذا هي جزءٌ من الخلفية، وستظهر يدى الشخصية فوق الطاولة لكن جسم الشخصية السفلي خلفها. الطاولة تسمى في هذه الحالة “كتاب”. حتى الشخصيات المختلفة التي تقف أمام بعضها تحتاج لترتيبٍ صحيح حتى تظهر بالشكل الصحيح، وتزيد الأمور صعوبةً كلما زادت العناصر المتداخلة عدداً أو تعقيداً كأن تتحرك بسرعة رسم مختلفة، ما يجعل من هذه الأخطاء شائعة الحدوث. المسؤولية الكبرى في تنظيم ترتيب الطبقات على ما أعتقد تقع على عاتق الرسام، حيث يفترض بالرسامين وضع ملاحظاتٍ على الطبقات المختلفة لتبيان ترتيبها الصحيح الذي يجب أن يستعمله طاقم الإنهاء، والشائع استعمال الحروف A-B-C… في هذه الحالة، كما توجد أوراق يدوّن عليها الوقت الصحيح لاستعمال أي رسمة أو طبقة ومع أي رسمةٍ أخرى (Time Sheet). في العادة لا تتجاوز عدد طبقات المشهد الثلاثة أو الأربعة، لكن في المشاهد المعقدة قد يصل عدد الطبقات المختلفة إلى الـ10 أو أكثر، لهذا من الضروري معرفة الرسام لهذه التفاصيل حتى يستطيع العمل سويةً مع طاقمي الإنهاء والتصوير للوصول لشكل المشهد المطلوب.

بعد ذلك تصبح الرسومات جاهزةً للتلوين، والذي يتم بالرجوع إلى ملاحظات الرسامين أيضاً، فهم من يضع الملاحظات للتظليل والإضاءة كلمعة الشعر أو لمعة العيون، وعادةً ما تستعمل الألوان الحارة (أحمر أو غيره) للإشارة على أماكن الإضاءة والألوان الباردة (أزرق أو غيره) للإشارة إلى أماكن التظليل، بينما تترك العمليات التي يجب تعديل الخلفية فيها لطاقم التصوير في المرحلة التالية.

مرحلة التصوير (Satsuei – 撮影)

بعد تلوين الرسومات تأتي مرحلة دمج الشخصيات مع الخلفيات ومن ثم تحرير الصورة وإضافة الفلاتر عليها. هذه المرحلة ليست بالبساطة التي يعتقدها البعض، بل تشكّل ربما أصعب التحديات في الأنيمي سواءً الحديث أو القديم، فأنت تحاول هنا التغلب على عدة تحدياتٍ في آن واحد. أولاً أنت تحاول مزج الشخصيات بالخلفية، ولا ننسَ أن عملية رسم الشخصيات لها نهجها الخاص وتسلك مساراً مختلفاً عن عملية رسم الخلفيات، فعادةً ما تكون الخلفيات بتفاصيل أعلى وتلوينٍ أفضل وما إلى ذلك، ما يؤدي إلى بروز الشخصيات أو الأجسام المتحركة عموماً عن الخلفية بشكلٍ مزعج في كثيرٍ من الأحيان، وهنا يأتي دور طاقم التصوير الممتاز الذي يتمكن بنجاح من محو الفارق بين الشخصية والخلفية وجعلهما يظهران كما لو أنهما ينتميان للعالم نفسه بإقناع. التحدي الثاني هو إضافة العمق للرسومات ثنائية الأبعاد لجعل العالم يعطي انطباع الواقعية. على سبيل المثال، كيف تقنع المشاهد بأنه توجد طاولاتٌ مدرسية يجلس على كل واحدةٍ منها طالب، وكل واحدة تبعد عن الأخرى في كل الاتجاهات الأربع، بينما يقف مدرّسٌ يشرح الدرس في الأمام وخلفه سبورة يكتب عليها؟ خاصة عندما تكون هذه العناصر بعضها من الخلفية وبعضها ليس من الخلفية ومن رسم أشخاصٍ مختلفين؟

في بداية التحول الرقمي مطلع الألفية كانت معاناة صنّاع الأنيمي مع هذه العقبات واضحة، وكان السبب الأول في مظهر أنيميات تلك الحقبة “المميّز”. إلا أن دخول الكمبيوتر في النهاية كان أمراً إيجابياً، فهو لم يسهّل أمور كثيرةً فقط، بل فتح آفاقاً جديدةً لصنّاع الأنيمي أيضاً لم تكن ممكنة من قبل من خلال المؤثرات التي لا تحصى التي يسمح بها الكمبيوتر.

تستعمل هذه المؤثرات كثيراً في تعديل الخلفيات والشخصيات بطريقةٍ تمحو أو تقلل الفارق بينهما قدر الإمكان. مثلاً أصبح من الشائع استعمال صورٍ حقيقية والتعديل عليها بشكلٍ أو بآخر ومن ثم استعمالها، بدلاً من رسم خلفيةٍ كاملة من الصفر. نادراً ما ترى أنيمي بخلفياتٍ جيدة لعدة أسباب، منها أن استديوهات الخلفيات قليلة وجداولها مليئة، لذا استعمال الكمبيوتر لصنع الخلفيات يخفف العبء كثيراً، لكن هذه العملية لا تنتج عادةً خلفياتٍ جيدة على أية حال، وتسبب كثيراً بمشكلةٍ أخرى وهي انفصام الشخصيات عن الخلفية.

Yesterday wo Utatte (2020). ليس من الصعب العثور على أمثلة سيئة أخرى.

لهذا تستعمل المؤثرات الرقمية أيضاً في محاولة الدمج بين الخلفيات والشخصيات، وهناك أكثر من نهجٍ في محاولة حل هذه المشكلة. يمكنك استعمال مؤثراتٍ كثيفة على الخلفية لدرجة طمسها بعض الشيء وإعطاء شعورٍ أقرب لأعمال الحركة الحية (Live-Action)، ما يحصل أحياناً في أنيميات كيوتو، لكنك تحتاج طبعاً لخلفياتٍ جيدة من الأساس حتى تنجح في ذلك. يمكنك أيضاً محاولة استعمال المؤثرات بشكلٍ دقيق أو بشكلٍ يخدع المشاهد للإعتقاد بأن الشخصيات جزءٌ من العالم فعلاً، وهذا تراه مثلاً في أعمال CyGames. على أية حال كل هذا ليس سهلاً ولن تراه إلا في الأعمال ذات الإنتاج الممتاز أو من استديوهاتٍ كبيرة عندها أقسامها المخصصة لهذه الأمور.

في هذه المرحلة تُضاف كذلك المؤثرة الرقمية الأخيرة، مثل مؤثرات القتال واللمعات وغيرها. من الأمور المثيرة للإهتمام في هذا الخصوص هو أنه لا يوجد حد للمؤثرات التي يمكن إضافتها للمشهد. هذا يعني أن تقدير العدد الكافي والمظهر الملائم للمشهد يعود في النهاية إلى طاقم التصوير والوقت المتاح. مثلاً، عندما بدأ استديو ويت في استعمال ما أسماه مؤثرات “الميك أب” في أنيمي كابانيري – Kabaneri كان استعمالهم لها على كل شي وفي كل مشهد تقريباً، وهذا مستوىً عالٍ ودقيق من المؤثرات أصبح ثقلاً صعباً على الأنيمي وإنتاجه وأدى إلى ضيق الوقت وتدهور مستوى الإنتاج عموماً. ويت الآن لا يستعمل الميك أب إلا في المشاهد المهمة تقربياً.

بهذا نرى أن عملية التصوير من أهم العمليات في الأنيمي الحديث وأصعبها. البعض يعتقد أنه وبعد دخول الكمبيوتر أصبح عمل طاقم التصوير سهلاً، أو أن الكمبيوتر يقوم بكل شيءٍ الآن بضغطة زر، إلا أنه وفي الواقع أصبح عملهم صعباً بعد زيادة تعقيده وزيادة المهام التي يجب عليهم القيام بها. طاقم التصوير لا يحصل على التقدير الذي يستحقه سواءً من جهة متابعي الأنيمي أو حتى بين صنّاع الأنيمي نفسهم.


أمثلة ومصادر إضافية