إعادة بناء إيفانجليون

إعادة بناء إيفانجليون

بسم الله الرحمن الرحيم

لا أعلم أين أبدأ أو أين سأنتهي مع هذه التدوينة. فرغت للتو من مشاهدة الفيلم الأخير في سلسلة أفلام إيفانجليون الجديدة وعقلي مليء بالأفكار والأشياء التي أريد قولها لذا سأحاول تفريغها هنا على شكل تدوينة. سأحاول ذكر كل التفاصيل الإنتاجية التي أعرفها عن الأفلام هنا، لكن جزءٌ كبيرٌ من هذه التدوينة سيكون تعليقاتي الشخصية على الأفلام، وسيتخلّله حديثٌ عن أحداثها لذا يفضل أن لا تكمل القراءة إن كنت لم تتابعها بعد.

ليس من المبالغة القول بأن مسلسل إيفا في التسعينات غير الأنيمي والصناعة ككل، لهذا كانت العودة إلى السلسلة وإنتاج مجموعة أفلامٍ جديدة تحكي القصة بشكلٍ مختلف تحدياً كبيراً. عُرض الفيلم الأول سنة 2007، أي بعد حوالي 12 سنة أصبح فيها أنو شخصاً آخر، لم تعد لديه الأفكار والمشاعر ذاتها التي كانت لديه عندما كتب إيفا لأول مرة، وبين عرض الفيلم الأول والفيلم الأخير 13 سنةً أخرى تغيرت فيها أفكاره وتغير معها شكل القصة والأفلام والتقنيات المستعملة، ليصبح الفيلم الأخير مختلفاً جذرياً عن الفيلم الأول. هذا ما أراده أنو على أية حال، فهو أراد عملاً جديداً فريداً، وكان هذا أحد أسباب إنشاء استديو كارا – Khara. قد يكون أبرز ما تغير هو نبرة العمل، الأفكار ذاتها عن التواصل والعلاقات البشرية وصعوبة المسؤوليات موجودة طبعاً، لكن الجو الكئيب والتعيس الذي طغى على المسلسل الأصلي أصبح أقل بكثير في الأفلام. أشعر أن التركيز في الأفلام كان أكثر على بناء عالم إيفانجليون وتفاصيله وشخصياته عموماً، وتقديم جوانب لم نرها من قبل.

المستوى الإنتاجي العالي وزمن الإنتاج الطويل سمح ببناء عالم إيفا وتفاصيله بشكلٍ غير مسبوق، وهو ربما أقوى جوانب هذه الأفلام. عالم الأفلام يقدم تصوراتٍ خيالية في التقنيات المستعملة فيه وتصوراتٍ جمالية في تصميم الدمار وحالة الكوكب المتردّية، ولا يكتفي بهذا بل يقوم أيضاً بدعمها بالتفاصيل الغنيّة عنها سواءً بطريقةٍ بصرية أو عن طريق الحوارات. مقر نيرف، القرية رقم 3، كل أسلحة وأدوات إيفا… إلخ. ليس جديداً على أنو وأعماله.

عن نفسي كنت دوماً أتمنى رؤية المزيد عن العالم وشخصياته وحياتها فيه، إلا أن الأفلام تجاوزت بعض التفاصيل التي وددت رؤيتها أيضاً، مثل ماضي آسكا أو ماري. آسكا كان لها دورٌ مهمٌ في الأفلام، ربما أهم من دورها في المسلسل، ورأينا شخصيةً مختلفةً جداً في الفيلمين الثالث والرابع، وسأكتفي بقول أني أحببت آسكا منذ رأيتها في المسلسل والآن أصبحت أحبها أكثر. لم أضعها في شعار المدونة عن عبث.

بالحديث عن الفيلم الرابع، كلما أفكر في هذا الفيلم أتذكر كيف أن سوزوكي “خطف” تاكيشي هوندا من كارا أثناء إنتاج الفيلم. هوندا كان مشرف الرسوم العام للفيلم الثالث ومن مشرفي أول فيلمين، إلا أن إنتاج الفيلم الرابع تعارض مع إنتاج فيلم ميازاكي الأخير، والذي بدوره أراد الحصول على هوندا بشدّة. أنو رفض في البداية، لكن سوزوكي أتى مراراً وتكراراً إلى أن قال له أنو بأن يسأل هوندا ويترك القرار له. هوندا يريد العمل على المشروعين، أمرٌ مستحيلٌ طبعاً، فقال له سوزوكي “بين العمل الذي يجب عليك القيام به (أو المجبر عليه)، وبين العمل الذي تريد القيام به، أيهما تختار؟”، فاختار هوندا الانتقال إلى مشروع ميازاكي في النهاية. كارا كان قد سبق وساعد غيبلي في إنتاج فيلم مارني سنة 2012 بعد الانتهاء من إنتاج الفيلم الثالث، وليس غريباً لو كانوا يساعدونهم الآن على فيلم ميازاكي، إلا أن خروج هوندا المبكر من المشروع خسارةٌ كبيرة. ناب أتسوشي نيشيغوري – Atsushi Nisihgori عن هوندا، أحد خريجي غاينكس وكبار مصممي الشخصيات في الصناعة، إلا أنه في النهاية ليس بمنزلة أسطورةٍ حيّة مثل تاكيشي هوندا.

ماذا فعلت بـآسكا يا نيشيغوري؟!

سلسلة الأفلام احتوت أكبر الأسماء في صناعة الأنيمي طبعاً، إلا أنني أظن أن الحديث عن التقنيات التي استعملت فيها سيكون مثيراً للإهتمام أكثر، ففي كل فيلمٍ حاول أنو استعمال تقنياتٍ جديدة ودمج العديد من الأدوات المختلفة من أوساطٍ فنية أخرى (مثل التوكوساتسو والأفلام الواقعية) للوصول إلى تعابير فريدة جعلت من إنتاج أفلام إعادة البناء استثنائياً، فلا تنسَ أن أنو فنانٌ له خبرةٌ في مختلف المجالات. على سبيل المثال، استعان أنو بفناني مؤثرات خاصة في أفلام التوكوساتسو لإنتاج بعض المؤثرات في الأفلام، كتحطم الزجاج هذا الذي استعمله في أحد المشاهد من الفيلم الرابع. بالنسبة للقرية رقم ثلاثة فقد تم إنشاء مجسمٍ كاملٍ لها من الكارتون، بينما تم إنشاء مجسمات مشابهة لمباني عديدة عموماً لتجربة زوايا مختلفة وزيادة الواقعية، لدرجة أنهم تواصلوا مع شركة إنشاءات لاستشارتهم عن بعض التفاصيل. كل هذه أشياء لا يمكن إعادة استعمالها وتحتاج وقتاً طويلاً، ما يجعلها غير ممكنة إلا في أفضل أفلام الأنيمي.

انظر لعملية صنع مؤثرات الزجاج هنا.

في أحد المشاهد الأخيرة من الفيلم الرابع، عندما تحول وجه شينجي إلى رسوماتٍ بسيطة بلا ألوان، تم استعمال طاولة تصويرٍ وكاميرا قديمة كالتي كانت تستعمل ما قبل الكمبيوتر لتصوير الرسومات حتى يكون للمشهد “شعورٌ” مشابه لأنيميات تلك الحقبة. بالطبع، الحصول على هذه الآلة في زمننا الحالي ليس سهلاً، لذا اضطر الاستديو لاستعارتها من غيبلي.

بين كل تلك المشاهد المتنوعة كان المشهد ذو الانطباع الأقوى علي في الأفلام كلها هو المشهد الذي أجبرت فيه آسكا شينجي على تناول الطعام، وذلك بسبب حركة الكاميرا والزاوية المميزة. اهتزاز الكاميرا بهذا الشكل نادرٌ في الأنيمي، فليس من السهل تنفيذه، والزاوية هذه أيضاً لا تراها كثيراً، بل هذه كانت النية من الأساس: زاوية وحركة للكاميرا غريبة على الأنيمي. من الواضح أن إنتاج هذا المشهد جرى بواسطة تقنية “التقاط الحركة” أو Motion Capture، ومن بين 226 زاويةٍ (!!) مختلفة التقطها فريق التصوير تم اختيار الزاوية الغريبة على الأنيمي. الزاوية غير التقليدية جعلت المشهد مؤثراً وقوياً بالفعل. تقنية التقاط الحركة عموماً كان لها دورٌ فعالٌ في الفيلم الرابع خاصةً، وذكر أنو أنه أراد إنتاج الفيلم أو بعض مشاهده دون لوحة قصة، مع التركيز على استعمال زوايا مختلفة ومتنوعة، لدرجة أنهم ابتكروا تقنيةً لتجربة حركة الكاميرا المختلفة على المشهد ذاته بشكلٍ سريع عن طريق عرض المشهد كاملاً على شاشة تلفاز ثم تصويره من جديد باستعمال كاميرا الجوال مع تحريك الجوال بالشكل المطلوب.

فيديو المشهد. انظر إلى تفاصيل إنتاجه هنا.

أود أيضاً الحديث قليلاً عن الأغاني والأداء الصوتي في الفيلم، فهذا الجانب كان إحدى نقاط قوة السلسلة أيضاً. ربما لا أحتاج للقول هنا سوى أن إيفانجليون يجمع ميغومي هاياشيبارا (ري)، مايا ساكاموتو (ماري) والتي كانت تغني طوال الأفلام، أغاني أوتادا هيكارو. أعتقد أن هذه أجمل أصوات بلاد الشمس المشرقة دون مبالغة. أضف إلى ذلك الأداء الصوتي الذي لن يتكرر من ميغومي أوباتا في دور شينجي طبعاً. بالنسبة للأغاني اختار أنو بعضها لأسباب شخصية، ولأنها أغاني تملكها توهو أيضاً، فمثلاً أغنية VOYAGER من فيلم Sayonara Jupiter (1984) التي وجدت في الفيلم الرابع كان أحد أسباب اختيارها هو كونها من الأغاني المفضلة لدى صديقيه شينجي هيغوتشي – Shinji Higuchi والراحل شويتشي ماسو – Shoichi Masuo.

الصداقة بين أنو وشويتشي قديمة وتعود إلى أيام استديو غرافيتون. ماسو كان مخرج المؤثرات الخاصة في الأفلام الثلاثة الأولى قبل وفاته سنة 2017، ووَصْف المؤثرات الخاصة في هذه الأفلام بأنه ممتاز سيكون تقليلاً من حقها. مستوى المؤثرات الخاصة في أفلام إعادة البناء قطعاً ضمن الأفضل في العقدين الأخيرين ومن الصعب أن تجد نظيراً له. انظر مثلاً إلى مشهد هجوم الملاك السادس المضاد على وحدة إيفا 01 المتمركزة فوق الجبل من الفيلم الأول، والذي أصابني بالدهشة عندما شاهدته لأول مرة. بالنظر إلى “ورقة الزمن” يمكن رؤية وجود 16 (!!!) طبقة مختلفة من الرسومات في هذا المشهد، كل طبقة تمثل عنصراً مختلفاً من عناصره. للدخان طبقة، للماء طبقة، للشعاع طبقة، للجبل طبقة… إلخ. العديد من مشاهد القتال في إيفا معقدة وتحتاج طبقاتٍ كثيرة، إلا أنها لا تتجاوز عادةً 5 أو 6 طبقات. المشهد مدته ثوانٍ قليلة إلا أنه يحوي كل هذه الطبقات وهو على درجةٍ عاليةٍ من التعقيد. ورقة الزمن بالمناسبة هي ورقةٌ يدوّن عليها الرسام حركة كل طبقة بالنسبة للباقين، حتى يُعرف لاحقاً كيف يجب جمع هذه الرسومات سويةً بالشكل والترتيب الصحيحين، فكل طبقةٍ عبارةٌ عن رسمةٍ منفصلة. المشهد كان من رسم تاكيشي هاشيموتو.

غياب ماسو عن الفيلم الرابع لم يعنِ نزول مستوى المؤثرات فيه، بل رأينا فيه أيضاً مشاهد قد تكون أفضل المشاهد في السلسلة ككل. هاشيموتو عاد مرةً أخرى بمشهدٍ مشابه لمشهده في الفيلم الأول ولا يقل عنه إبهاراً في بداية الفيلم عندما تتصدى السفن المدرعة للشعاع أثناء معركة باريس. انظر إلى كمية طبقات المؤثرات المختلفة التي تضاف إلى المشهد. عملية اختيار هذه المؤثرات وجمعها معاً ليست سهلة وتتضمن الكثير من المتغيّرات التي يصعب ضبطها بإتقان.

مثال آخر هنا

استعمال الكمبيوتر والسي جي كان كثيفاً في الأفلام إلا أن إشراكه لم يكن مزعجاً بل تم دمجه مع بقية العناصر بشكلٍ جيد. لو كان عليّ اختيار مشهدٍ غريبٍ في الفيلم لاخترت ربما أحد مشاهد القتال الأخير بين شينجي وأبيه في المدينة المصغّرة، إلا أن الأمر كان متعمداً فهذا المشهد يفترض به أن يكون في موقع تصوير توكوساتسو.

ربما أضيع وقتي ووقتك هنا، فمن يهتم بكل هذا في إيفانجليون، فهل هذا هو أهم شيء؟ ما هو أهم شيءٍ في إيفا؟ لا يجدر بي طرح سؤالٍ عريضٍ كهذا في الجزء الأخير من التدوينة، لكن الأفلام طوّرت الشخصيات بشكلٍ كبير. كانت شخصية شينجي في المسلسل وتطورها جيدين بالفعل، وهي كذلك في الأفلام أيضاً، إلا أن الأفلام منحت فرصةً أحسن لباقي الشخصيات. المسلسل الأصلي كان فعلياً عن قصة شينجي وتجربته، بينما أشعر أن الأفلام الجديدة أتت لتقدم لنا قصة إيفا ككل، كعالم إيفا وكل شخصياته. ري تعلمت الزراعة ومعنى الحب ومعنى الحياة، آسكا حصلت على من يقدرها ويعترف بها، غيندو الخائف من العلاقات والتواصل مع البشر واجه ابنه أخيراً… إلخ. كنت أتمنى أثناء متابعتي للمسلسل، وربما هذه مجرد رغبةٍ شخصية لا يشاركني فيها الكثيرون، رؤية الشخصيات سعيدةٍ بشكلٍ ما. الأفلام منحتني هذه الأمنية ما جعلني سعيداً بشكلٍ غريب بعد انتهائي منها.

لا أعلم لماذا اختار أنو العودة إلى إيفانجليون تحديداً، لكن قد يكون هذا لأن إيفانجليون أقرب الأعمال إليه شخصياً وهو نقاشٌ طويل آخر، لكن غالباً كان إيفا أشبه باللعنة على أنو خاصةً بعد أن بدأ إنتاج الأفلام ولم يستطع إنهاء الرابع إلا مؤخراً. ربما كان سبب عودة أنو إلى إيفا هو التغير الذي مر به في حياته والإجابة الجديدة التي حصل عليها في حياته على المشاكل\الأسئلة التي طرحها في المسلسل. أنو مثلاً تزوج بعد انتهاء المسلسل بفترة، ويقال أن ماري شخصيةٌ تشبه زوجته أو مستوحاةٌ منها (لو فكرت في الأمر فهي الشخصية الرئيسية الوحيدة الجديدة في الأفلام)، وبالطبع لم يعد في حالة الإكتئاب التي كان فيها عندما قدم إجابته في فيلم نهاية إيفانجليون، لذا ربما عاد لتقديم إجابةٍ نهائية أفضل.

هناك دلالاتٌ عديدة يفصح فيها أنو خلالها عن مشاعره. المشهد الختامي حيث يجري شينجي حواره الأخير مع الشخصيات يقع في مبنىً اُستعمال أثناء الإنتاج لتصوير مشاهد التقاط الحركة التي تحدثت عنها سابقاً، وكان أحد عناوين الفيلم على الملصقات الدعائية حرفياً “وداعاً إلى كل ما في إيفانجليون”، وذكر أنو أنه لن يُنتج أي عملٍ جديدٍ في السلسلة كما لو أنه أزاح حملاً عن صدره. نهاية الأفلام، وهي النهاية السعيدة طبعاً بين كل نهايات السلسلة، كان العالم الخالي من إيفا. كأحد معجبي السلسلة وبخاصةٍ الأفلام تمنيت لو أنها عشرةٌ عوضاً عن أربعة، لكنني أتمنى أيضاً أن تكون نهاية أفلام إعادة البناء السعيدة ومضيّ شينجي قدماً مع شخصٍ يثق به (ماري) دلالةً على تصالح أنو مع نفسه، مع ماضيه، مع أبيه، وأخيراً مع إيفانجليون.

شكراً للقراءة. شكراً لإيفانجليون.


لقراءة المزيد عن تفاصيل إنتاج أفلام إيفانجليون اقرأ تدوينتي عن الفيلم الوثائقي المخصص عنها.