كلام عن تغير رسومات الأنيمي

كلام عن تغير رسومات الأنيمي

بسم الله الرحمن الرحيم

عام 2017 حظيت بفرصة مقابلة هيرومي ماتسوشيتا – Hiromi Matsushita، أحد الرسامين البارزين في مينكي مومو(عرض 1982). ماتسوشيتا ما زال نشطاً في الصناعة، وعند دخولي الغرفة كان منهمكاً في رسم مشهدٍ فرغ منه في حوالي 10 دقائق، أعتقد أنه لم يفقد مهارته بعد. طلبي منه كان بالطبع رسم مينكي مومو(حنين)، طلبٌ واجه ماتسوشيتا صعوبةً في تحقيقه حتى بالاستعانة بصورةٍ لها من غوغل. بعد أكثر من 10 دقائق من الرسم والمسح المتكرر على ذات الورقة، سلمني ماتسوشيتا الرسمة قائلاً: “أعتذر لك، هذه ليست مومو الحقيقية”. 

لا أقصد أن السبب خلف عجزه عن رسمها مرةً أخرى هو تعوده على رسومات الأنيميات الحديثة المختلفة تماماً، فقد يكون نسي كيف يرسم هذه الشخصية تحديداً فقط، أو قد يكون أي سببٍ آخر. إلا أنه من الواضح أن رسومات الأنيمي وتصاميم الشخصيات فيه تغيرا كثيراً. والإجابة الشائعة على سبب تغير رسومات الأنيمي عبر الزمن، أو تطورها إن صح التعبير، أثارت استغرابي دوماً، والتي تكون عادةً “بسبب تطور التكنولوجيا”. ولأنه من غير الكافي نفي هذا الإدعاء فقط، سأحاول في هذه التدوينة شرح لماذا جوابٌ كهذا خاطئ بشكلٍ عام، وفي محاولة أخرى سأبرر التغير الحاصل.

يجدر بي قبل البدأ أن أشرح مقصدي بالرسوم. أنا لا أتحدث عن الألوان أو المؤثرات أو غيرها، بل الرسوم الأساسية المجردة. هذا يعني حرفياً جودة الرسوم المفتاحية، وبدرجةٍ أقل البينيّة. تصاميم الشخصيات أيضاً تدخل في كلامي لكن ربما بشكلٍ غير مباشر، والخلفيات مع أنها جزءٌ مهم إلا أنني لا أقصدها في معظم كلامي. هذا يعني أن التطورات في تقنيات العرض والتصوير، كالإتش دي وزيادة الوضوح لا تعني أن الرسم قد تحسن، فإصدار نسخة بلو راي من أنيمي عرض في السبعينات لا يعني تحسيناً جذرياً في رسوماته. من النقاط التي يمكن الفصل فيها هي تطور التحريك وتطور الرسوم، ولو أنهما متقاربان ويؤثر أحدهما بالآخر، لكن يمكن التمييز بين العوامل التي طورت أحدهما دون الآخر، وكيف أثرا ببعضهما.

ربما يعامل العديدون صناعة الأنيمي كما يعاملون صناعة الألعاب، متجاهلين كون الأداتين الرئيسيتين في الأنيمي هما الورقة والقلم اللذان لم يتغيّرا منذ مئات بل ربما آلاف السنين، مقارنةً بالكمبيوتر المستعمل في صناعة الألعاب وفي رسوم السي جي عموماً. لا أنفي التطورات التكنولوجية التي دخلت على الصناعة وتأثيرها عليها، لكن ما أريد قوله هو أن معظم هذه التطورات لم تحدث تغييراً جوهرياً يرفع جودة رسمة رصاصية على ورقة. ولو تكلمنا تحديداً عن التطورات التكنولوجية في عملية إنتاج الأنيمي سنجد دخول الكمبيوتر والتلوين الرقمي في النصف الثاني من التسعينات أبرزها، ولا يسبقه سوى دخول تقنية الزيروغرافي – Xerography في الستينات. لهذا لا يمكن تفسير التغير الحاصل في الرسوم في السبعينات والثمانينات بأية تقنية معينة كون الأدوات المستعملة بقيت ذاتها تقريباً.

تقنية الزيروغرافي كانت تستعمل لنقل أو نسخ الرسوم من الورقة العادية إلى ورقة السيلولويد تجهيزاً لتلوينها. أوراق السيلولويد هي الأوراق الشفافة التي تخضع للتلوين، بينما يرسم الأنيمي على ورقٍ عادي كون الرسم على ورقة السيلولويد صعباً أو غير ممكن. نادراً ما أرى أحداً يتكلم عن الزيروغرافي على الرغم من أثرها الكبير في الصناعة، لهذا سأخوض في تفاصيل التقنية وتطورها بعض الشيء. دخلت التقينة صناعة الأنيمي بعد عرض فيلم ديزني 101 Dalmatians في اليابان، الذي لفت نظر توي دوغا (توي أنيميشن حالياً). توي أخذت التقنية والجهاز من ديزني لكن أجرت عليه بعض التعديلات، أهمها إضافة كاميرا خاصة لتكبير وتصغير أبعاد الرسم. فائدة هذه الكاميرا تبرز عندما تجري شخصيةٌ مبتعدةً إلى الأفق مثلاً، فتتقلص كلما زاد بُعدها. أول استعمال للتقنية في اليابان كان أنيمي توي المتلفز “كين والذئاب” – Ookami Shounen Ken في بداية الستينات. لم يكن استعمال جهاز الزيروغرافي سهلاً ورخيصاً، لهذا سعت توي لإيجاد بديلٍ أمثل، والذي كان جهازاً سمّوه “آلة النسخ” (Trace Machine – ツレースマシン). أول استعمالٍ للجهاز الجديد هذا كان في أنيمي “ساسكي” – Sasuke أواخر الستينات. توجد عدة فروق أخرى بين الجهازين، يصعب عليّ الحديث عنها، لكن أحدها كون آلة النسخ أكثر دقةً في نقل خطوط الرسم وحساسيتها، أمرٌ كان يعاني فيه جهاز ديزني الأصلي بشكلٍ ملحوظ. من النقاط التي كانت مثيرةً للإعجاب في أنيمي ساسكي مثلاً هي اقتباسه روح رسومات المانجا بشكلٍ جيد، ولم ينتفع أنيمي ساسكي لوحده من هذه النقطة، فالأنيميات المقتبسة من غيكيغا ازدادت كثيراً في تلك الفترة بعد تمكين آلة النسخ من اقتباس رسومات الغيكيغا الكثيفة والخشنة بامتياز. يمكن رؤية هذا في النمر المقنع – Tiger Mask أو ساموراي جايانتس – Samurai Giants بوضوح. هذه مقالة يابانية للاستزادة.

بالنسبة للرسوم ذاتها وتطورها، فتبدأ القصة في بدايات صناعة الرسوم المتحركة التجارية في اليابان. في الخمسينات وبعد الحرب العالمية الثانية، كانت صناعة الأنيمي بشكلٍ عام تتكون من الأفلام، بقيادة استديو توي دوغا الذي أنتج أفلاماً مثل أول فيلمٍ ملون ياباني “هاكو جادن” عام 1958. تلك الفترة احتوت أفلاماً بجودةٍ عالية، خاصة أعمال توي الذي كان في الأساس يطمح لأن يكون ديزني الشرق. هذا الحال لم يدم طويلاً، ففي الستينات جاء أسترو بوي – Astro Boy، أول أنيمي متلفز بالشكل المعروف حالياً، وغيّر كل شيء. الأفلام التي تتراوح مدتها من ساعة ونصف حتى ساعتين تحتاج سنين لإنتاجها، لهذا كانت فكرة إنتاج 20 دقيقة أسبوعياً مجنونة قياساً على مستوى الأفلام، ما جعل أوسامو تيزوكا – Osamu Tezuka(مخرج ومانجاكا أسترو بوي) يقوم بالتغييرات الجذرية التي قام بها في أسترو بوي، بجعله عملاً بدائياً تماماً من ناحية الرسم والحركة وكل شيءٍ عموماً. التغييرات التي وضعها تيزوكا في أسترو بوي ستصبح هي الأسس التي بنيت عليها صناعة الأنيمي المتلفز، ولأن صناعة الأنيمي المتلفز أصبحت هي نواة صناعة الأنيمي في وقتٍ قصير كان تأثيرها على صناعة الأفلام لا يمكن تجنبه. أسس التلفاز أصبحت هي نفسها الأسس التي تُنتج بها الأفلام (بشكل عام)، وقلّ التركيز على الأفلام تدريجياً، لتصبح صناعة الأنيمي عموماً صناعةً مقيدةً تركز على الكثرة بدلاً من الجودة. أوسامو تيزوكا نفسه لم يتوقع التحول السريع والضخم هذا.

لكن الكم الضخم من الأعمال التي بدأت تنتجها اليابان كان هو السبب الرئيسي في وصول الصناعة إلى ما هي عليه اليوم. الكل ينتقد الصناعة التلفازية وجودتها المتدنية التي أثرت سلباً في نمو صناعة الأفلام ذات الجودة العالية، لكن لا يمكن نفي أن الصناعة التلفازية هي التي جعلت اليابان أكبر البلدان المنتجة للرسوم المتحركة. تأثير التلفاز ربما كان كارثياً على الصناعة الأمريكية، ولم يخلُ من السلبيات في اليابان، إلا أن الفوارق كبيرةٌ في التعامل والتطور التلفازي بين اليابان وأمريكا وفي النهاية النتيجة المختلفة تماماً التي وصلت لها كلتا الصناعتين، موضوعٌ طويلٌ بحدّ ذاته. الصناعة التلفازية أمدّت صنّاع الأنيمي في اليابان بتدفقٍ لا يتوقف من العمل، وزيادة حجم هذه الصناعة خلق المزيد من العمل ما يفسح المجال للمزيد من الصنّاع ما يعني المزيد من المواهب والتنوع، وهو أكثر ما يميز الصناعة اليابانية اليوم. تقريباً كل الصنّاع اليابانيين البارزين، خاصةً الرسامين، بدؤوا مسيرتهم في الصناعة التلفازية.

الكم الهائل من الأعمال التي تنتجها اليابان كان مفيداً لتدريب الصنّاع في بيئةٍ تعتمد على التعلم بالتجربة وتفتقر للدورات أو المعاهد التدريبية، أمرٌ ما زال ملاحظاً إلى يومنا. لكن يوماً بعد يوم كان عدد الصنّاع في ازدياد، ومع زيادتهم ازداد عدد الأشخاص الذين يمكن التعلم منهم وسؤالهم، كما ازدادت المصادر المتنوعة عن الأنيميشن كالكتب وغيرها حتى وصلنا إلى عصر الإنترنت. لا شيء يثبت تأثير الانترنت أكثر من الكمية الملحوظة من الرسامين الذين اقتحموا الصناعة بعد تعلمهم الرسم والتحريك عبر الانترنت في المنزل، متجاوزين الأنظمة والخطوات المعتادة ومثبتين جدارتهم في وقتٍ قصير. ربما أولهم كينيتشي كوتسونا – Kenichi Kutsuna، لكن ما زالت الظاهرة مستمرةً لنرى أشخاص مثل تشينا – China يستلمون زمام الإخراج، ربما أصغر مخرج حلقاتٍ في تاريخ الصناعة(18 سنة). النوابغ الصغار كهؤلاء ليسوا حصراً على عصر الانترنت، كيتاكوبو هيرويوكي – Kitakubo Hirayuki كان مصمم شخصيات بعمر 23 إن لم أكن مخطئاً، وماساهيتو ياماشيتا – Masahito Yamashita رسم المفتاحيات لأول مرة بعمر 18، لكن ليس بالعدد والكم الذي نراه حالياً.

أما بالنسبة للدورات والمعاهد التعليمية فعددها زاد. ربما أول مثالٍ يخطر على بالي لأهمية التعليم والتدريب في الرسوم المتحركة، ولو أنه مثالٌ قديم، هو تومونوري كوغاوا Tomonori Kogawa، الذي دخل صناعة الأنيمي بعد تخرجه من قسم الفنون الجميلة في إحدى الجامعات. بعد تعلم كوغاوا أسس الرسم الصحيح، تفاجأ بأن الطريقة المعتادة في رسم الرؤوس في الأنيمي آنذاك كانت خاطئةً، ومن الطريف أنه عندما يرسمها بالطريقة الصحيحة كان مشرف الرسوم يعدلها للطريقة الخاطئة التي اعتاد عليها. توموناغا كان ربما أول من أعار اهتماماً لكيفية الرسم الصحيح للشخصيات من الزوايا المختلفة، وكان خلف اللقطة الأيقونية من إيديون عندما تنظر الشخصية للأعلى. توموناغا ذهب لاحقاً لينشئ الاستديو الخاص به، بيبو – Bebow، حيث نشر فيه أسلوبه وتعاليمه في الأنيمي. يذكرني توموناغا بـأكينو سوغينو – Akio Sugino، ليس لتشابه أسلوبهما، بل لكون سوغينو يولي اهتماماً خاصاً بجودة الرسم أيضاً. انظر إلى أشيتا نو جو – Ashita no Joe الذي أشرف عليه وصمم شخصياته، وسترى أنه ربما أفضل أنيميات عقده رسماً.

التطورات والتغييرات في نظام إنتاج الأنيمي نفسه لعبت دورا في تحسين الجودة. نظام توي دوغا كان مبنياً على تقسيم الرسامين إلى مجموعات كل مجموعة يرأسها رسامٍ خبير أو ماهر، بينما نظام الأنيمي المتلفز والذي بقي بشكلٍ عام دون تغييرٍ جذري كان تقسيم الرسامين إلى مفتاحيّين وبينيّين، يرأسهم مشرف رسومٍ في كل حلقة. مشرف الرسوم منصبٌ لم يبتكر إلا بعد عدة سنين من بداية توي دوغا إنتاج الأفلام، ووجد أيضاً منصب رسام مفتاحياتٍ ثان آنذاك ولو أنه اختفى لفترة قبل أن يعود مطلع الألفية. ابتكارٌ مهمٌ آخر كان إضافة مرحلةٍ جديدة اسمها “المخططات” بين مرحلتي لوحة القصة والرسم المفتاحي، والتي أضافها إيساو تاكاهاتا – Isao Takahata أثناء إخراجه لمسلسل هايدي – Alps no Shoujo Heidi، وهو ما ساهم في رفع جودة المسلسل بشكلٍ ملحوظ وانتشار هذه المرحلة لتصبح أساسيةً في صناعة الأنيمي إلى يومنا. بعض الابتكارات الأخرى المؤثرة قد لا تتوافر عنها معلوماتٌ كافية أو لا تحصد اهتماماً كافياً رغم تأثيرها، لبساطتها ربما. فمثلاً يوشينوري كانادا – Yoshinori Kanada كان يستعمل الأدوات الهندسية كالمسطرة أثناء الرسم، ليست معلومةً منتشرة لكن تأثيرها واضح وربما قلده العديدون في هذا لاحقاً. من الطريف أن هذا الأمر كان في البداية مدعاةً للسخرية بين زملاء كانادا.

أفلام توي دوغا اتبعت نهجاً مشابهاً لنهج ديزني في كونها تهدف لتقليد الحركة الواقعية، كما لو أن الشخصيات ممثلون على خشبة مسرح. بعد ظهور الأنيمي المتلفز كانت الفكرة هي ذاتها، لذا سعى صنّاع الأنيمي إلى محاكاة الحياة لكن في بيئة مقيدة ومحدودة أكثر بكثير من تلك التي وفرتها توي دوغا. التقنيات والأساليب ومستوى الرسوم تحسن عموماً بعد تأقلم وتكيف الصناع والشركات اليابانية مع البيئة الجديدة وإجراء العديد من التجارب من رسامين أمثال ياسو أوتسوكا – Yasou Otsuka وغيره، لكن بشكلٍ عام لم يتغير تركيز صناعة الأنيمي عن كونه منصباً ليس على الرسوم والأنيميشن نفسه، بل على القصص ولاحقاً الإخراج، معززاً بالشهرة التي حصل عليها مخرجون مثل يوشيوكي تومينو – Yoshiyuki Tomino (غندام) ومخرج ماكروس – Macross. حتى ما يسمى “طفرة الأنيمي” التي بدأت مع فيلم ياماتو – Uchuu Senkan Yamato في النصف الثاني من السبعينات لم تجلب تطوراتٍ جذرية للصناعة وتوجهها. التغير الحقيقي لم يأتِ قبل النظر إلى الأنيميشن بنظرةٍ متحررة من إلزامية محاكاة الحياة، وهي نظرة يوشينوري كانادا.

الكلام عن كانادا وأسلوبه يطول ولا طائل لي بالحديث عنه على أية حال، لكن ما يهمنا هو النتيجة التي جلبتها شهرة كانادا الجامحة بداية الثمانينات: تغيير الصناعة ونظرة الناس إلى الصناعة. قبل كانادا كان الصنّاع الذين ينالون اهتمام المعجبين هم غالباً المخرجون، لكن كانادا كان من أوائل إن لم يكن أول من حظي بشعبيةٍ جامحة بين الرسامين، والسبب مشاهده المميزة والفريدة. كانادا اتبع مبدأً بعيداً عن الواقعية، مبدأً ينظر إلى قدرات الأنيميشن والذي يميزه بدلاً من محاولة محاكاة الواقع.

من اللازم الحديث عن الواقعية في الأنيمي قليلاً قبل أن نكمل. الكثيرون يضعون أكيرا – Akira بداية للموجة الواقعية في الأنيمي، اعتقادٌ يمكنني الجزم أنه خاطئ. من الأجدر القول أن أكيرا كان ذروة هذه الموجة، لكنها بدأت منذ مدةٍ طويلة، لا أستطيع تحديد نقطةٍ معينة لبدايتها. ربما يمكننا القول أن بداية الأنيمي هي نفسها بداية الواقعية فيه، كون الرسوم المتحركة في أصلها تهدف لمحاكاة الواقع، كما يمكن رؤية الواقعية والتوجه هذا عموماً في الأنيمي السبعيني وحتى الستيني. لكن هناك سؤالٌ مهمٌ هنا: عن أي واقعيةٍ نتحدث؟ أعتقد أن الكثيرين لديهم تصورٌ مبسطٌ للرسوم المتحركة الواقعية على أنها محاكاةٌ للواقع، إلا أنه وبخلاف الواقع فالرسوم المتحركة توفر أبعاداً وحريةً واسعةً للتعبير بطرقٍ مختلفة تشعرك بواقعية المشهد. ما أعنيه هو وجود أنواعٍ عدة من الواقعية في الأنيمي انتشرت في فتراتٍ مختلفة.

لا أعرف ما يكفي عن الواقعية في السبعينات وما قبلها، لكنها توصف مراراً بالواقعية المسرحية وكانت عموماً متأثرةً بديزني. الواقعية هنا بالمعنى المتعلق بالتحريك وتمثيل الشخصيات أو الحركات التي تقوم بها، كتلويح الأيدي وما شابه. “ثورة” كانادا وأسلوبه الذي طغى على النصف الأول من الثمانينات هي ربما مجرد طفرة غريبة في تطور أسلوب الرسوم المتحركة اليابانية، أسلوب كانادا ما زال موجوداً لليوم بأشكال مختلفة لكن الواقعية عادت لتكون الأسلوب السائد في الصناعة بعد فترة وجيزة، وتطورها لم يتوقف. نوابغ ورواد الموجة الواقعية التالية كانت بدايتهم أثناء تلك الفترة، مثل تاكاشي ناكامورا – Takashi Nakamura و أوتسونوميا – Utsunomiya، الذين واصلوا تطوير الأسلوب.

أوتسونوميا كان متردداً حيال دخول الصناعة أم لا، لمعرفته بصعوبة تطبيق الأسلوب الواقعي ضمن قيود ومحدودية الأنيمي الياباني. كان مصدر إلهام أوتسونوميا أعمال توي دوغا الأولى بمشاركة أوتسوكا وأعمال ديزني، والذي كان واضحاً على أسلوب أوتسونوميا. شخصياً لطالما استغربت من وصف أسلوب أوتسونوميا بالواقعي، لكن يعتبره العديد ذروة الواقعية المسرحية لتوي دوغا، بتمثيلٍ يتسم بالمبالغة إن صح التعبير وبالحركات المسرحية، ما يجعله ربما يبدو بعيداً عن الواقعية من هذه الناحية، لكن لا يمكن نفي إتقان الوزن والثقل فيه. أكيرا، وبدرجةً مختلفة غوزنسوساما بان بانزاي – Gosenzo-sama Banbanzai، كانا تجسيداً لفلسفة أوتسونوميا وتاكاشي ناكامورا ليس في التحريك فقط، لكن في تصميم الشخصيات أيضاً، موضوع سأعود له لاحقاً.

مشهد لأوتسونوميا من غوزنسوساما بان بانزاي

الواقعية لها نواحٍ عديدة، فمن مشاهد تاكاشي ناكامورا المأثورة، مشاهده في البطل الذهبي – Gold Lightan، تعتبر من أكثر المشاهد واقعيةً في تمثيل الحطام والصخور في زمانه على الأقل، بينما هناك من برع في تمثيل واقعية المؤثرات والموائع وغيرها. أظن أن الموضوع بشكلٍ عام يعتمد على التوجه، أوتسونوميا مثلاً كان يعامل الشخصيات كممثلين على خشبة مسرح، و شينيا أوهيرا – Shinya Ohira كثيراً ما مثّل الشخصيات كأجسادٍ هلامية مائعة تقريباً، لكن كل هذه التوجهات والتمثيلات تتفق في إتقانها الوزن والثقل والشعور الواقعي.

مشهد لتاكاشي ناكامورا من أكيرا. لاحظ الأيدي والفم.

بالتأكيد لا يمكن لأي رسام التحريك بواقعية متقنة. ميازاكي وغيره تذمروا مراراً من المحاكاة لأسلوب كانادا التي طغت على النصف الأول من الثمانينات، وكانت في حالاتٍ عديدة رديئة، إلا أنه ليس من الصعب محاكاة أسلوب كانادا، ربما ليس بنتيجةٍ مذهلة لكن مقنعة وتفي بالغرض على الأقل. هنا تختلف الموجة الواقعية في النصف الثاني من الثمانينات بكونها صعبة المحاكاة، خاصة في الأعمال التي تفتقر لمواهبٍ كأوتوسونوميا ورفاقه أو تفتقر للوقت والميزانية. أصبح من الواضح بعد أكيرا أو حتى قبل أكيرا بقليل أي أسلوب ستميل له الصناعة، أو الجمهور على الأقل، وعند هذه النقطة أخذت الصناعة توجهاً مختلفاً للواقعية، ليس توجه التحريك الواقعي الذي في أكيرا والأفلام التي مهدت هذه الموجة في الأساس، لكن توجهاً يشعرك بالواقعية بطرقٍ مختلفة، أولها تصاميم الشخصيات وزيادة الخطوط والتفاصيل في الرسومات.

لو عدنا إلى الستينات وجزءٍ من السبعينات سنرى العديد من الأنيميات بتصاميم شخصياتٍ كثيفة الخطوط أو بأساليب تتسم بالواقعية تقريباً، لكنها في معظمها مجرد طفرة لا تمثل التوجه العام، تنسب عموماً للغيكيغا أو لأشخاص بعينهم اتبعوا هذا التوجه مثل أكيو سوغينو وأوسامو ديزاكي – Osamu Dezaki. أما أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات فكانت بساطة تصاميم الشخصيات من الأمور التي مكنت أسلوب كانادا من الانتشار. البساطة في التصميم تنافي الواقعية بطبيعتها، فمع زيادة التفاصيل يزيد تعقيد التصاميم ويزيد عدد الخطوط فيها، ما يؤدي لتصعيب رسمها. أمرٌ بديهي لكن هذا ما حصل بعد انتشار الموجة الواقعية، تصاميم أقرب للواقع وبتفاصيل أكثر لكن بالكاد تتحرك. يمكنك رؤية هذا تقريباً في أي أوفا صدرت من تلك الفترة، وقارنها بأوفا أخرى صدرت أثناء الموجة الكاناداوية. عجيبٌ الفرق الذي قد تحدثه خمسة أعوام!

صور من اوفا Vampire Sensou سنة 1990. هذه الأوفا كانت جزءاً من سلسلة الأوفات الواقعية الخاصة بتوي أنيميشن المسماة Toei Video. التصاميم تفاصيلها عالية، لكن قليلاً ما قدمت الأوفا مشاهد سلسلةً كفاية.

ليست صعوبة الرسم هي المشكلة الوحيدة هنا، فأسلوب كانادا وعلى الرغم من حيويته لا يتطلب الكثير من الإطارات، بل على العكس تكون قلة الإطارات أحد سماته الفريدة. إنه أسلوبٌ ولد بسبب قيود الصناعة اليابانية في الأساس، ولو فكرت في الأمر فربما لا صناعة رسومٍ متحركة أخرى كانت ستنتج أسلوباً كهذا. بينما تتطلب الواقعية عدداً لا بأس به من الإطارات للوصول للحركة السلسة الواقعية بإقناع. قد أبالغ في قولي هذا، لكن الصناعة اليابانية التلفازية حاولت قرابة عقدين تحقيق الواقعية في بيئة لا تناسبها فوجدت أسلوب كانادا والذي مثل روح الصناعة بحق، فقط لتتركه وتعود مرةً أخرى للواقعية بشكل غير مقنع.

تعد أوفا بيرث – Birth الخاصة بكانادا سنة 1984 بسبب فشلها نقطة النهاية لهيمنة الأسلوب الكاناداوي في الصناعة اليابانية. يمكن القول أن قصة الأوفات هي قصة الأنيمي الياباني، فسوق الأوفا عكس حالة الصناعة العامة في كل فترة من فتراتها تقريباً. غالباً لأن الأوفا كانت الوسيلة الأقرب للوصول للجمهور دون الحاجة لقناة عرض أو صالة سينما أو حتى الكثير من المال، ما جعلها النافذة التعبيرية للصناع عموماً والصناع الشباب خاصةً. بالطبع وُجِد تدخلٌ من الشركات، خاصةً لاحقاً بعد نضوج سوق الأوفا أواخر الثمانينات، لكن الأوفات كانت أولاً وأخيراً تمثل توجه السوق والصناع. لا أعلم حيال كون ما سأقوله معروفاً أم لا، إلا أن صناعة الأنيمي وبالأخص المتلفز مرت بفترة عصيبة أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، ظهرت فيها الأوفا كوسط نشر ذو أهمية بالغة، ما أدى بدوره في تأثيرها على تطور الصناعة بشكلٍ مثيرٍ للإهتمام، أمرٌ قد يكون صعب التصديق بالنظر لوضع الأوفات الحالي.

صناعة الأنيمي اعتمدت على التلفاز طوال تاريخها تقريباً، لذا أي مشكلة تواجه الأنيمي المتلفز هي مشكلةٌ للصناعة ككل. وفي منتصف الثمانينات لم يكن الأنيمي المتلفز في أفضل حالاته، وهذه قصة طويلة بحد ذاتها تختلف أسبابها من تغير المشاهدين إلى ظهور أشكالٍ مختلفة من الترفيه كألعاب الفيديو وأسبابٍ أخرى، يكفينا هنا أن النظام القائم للصناعة حتى تلك اللحظة لزم تغييره. ما أقصده هو أنه وفي النسبة العظمى من الأنيميات كان مصدر الدخل هو الألعاب أو المانجا أو أي منتج ثانوي آخر، وليس الأنيمي نفسه، ما يعني أن جودة الأنيمي لم تكن الأمر المهم طالما أدى غرضه بالترويج للمنتج الرئيسي. بالطبع لم يمنع هذا إيتشيرو إيتانو – Ichiro Itano من الإبداع في مشاهده، أو تومينو من تطبيق أفكاره وتصوره المختلف لأعمال الميكا، إلا أن هذه كانت في مجملها إبداعاتٍ فردية ولم تكن هدف المشروع في الأساس، ففي النهائية لم يكن إخراج تومينو الفذ من أنقذ سلسلة غندام، بل الغنبلا (Gunpla).

لا مشكلة في هذا النموذج طالما يشتري المشاهدون منتجك الذي تحاول بيعه، والذي لم يحصل في النصف الثاني من الثمانينات، ما يقودنا إلى نموذج الأوفا المبني على بيع الأنيمي مباشرةً للمشاهد بدلاً من بيع منتجٍ مختلف. هذا النموذج مشابه للأفلام، لكن إنتاج أوفا أسهل وأقل مخاطرةً وتكلفةً من إنتاج أي فيلم. لدينا اليوم الإنترنت بكل تسهيلاته، حيث يمكن لأي فنانٍ رفع أي عملٍ ويصل للألوف أو الملايين حتى. بينما وبالنسبة للصناع في الثمانينات كانت الأوفات هي النافذة التعبيرية لمن يريد صنع ما يشاء دون قيود ونشره بسهولة لمحبي الأنيمي الآخرين، وهو الأمر الذي يجعلني أحب أعمال الأوفا عموماً.

على أية حال، عندما تريد بيع الأنيمي نفسه فنقاط تركيز المشروع ستختلف أيضاً. جودة الأنيمي هي الأهم هنا، وتأتي أولاً جودة الرسومات كون الأنيمي وسطاً بصرياً في النهاية. من المفيد كذلك كون الأوفا غير مقيدةً بجداول التلفاز المثقلة وأي طلبات من قنوات العرض، وكون عدد الحلقات أقصر، ما يساعد على إنتاج جودة رسمٍ أفضل بكثير، والذي كان ربما نقطة تميز الأوفات الأهم. أوفات مثل باتلابور – Patlabor، و غن بستر – Gunbuster، و Gundam 0083، والتي تمتعت بجودةٍ عالية وحققت نجاحاً ضخماً لم تضع معياراً جديداً لجودة الأنيمي البصرية فحسب، بل أظهرت إمكانية وقيمة إنتاج أعمالٍ بهذه الجودة للجمهور وللشركات على حدٍ سواء. بعد نضوج النموذج هذا بعدة سنوات بدأت محاولات تطبيقه على الأنيمي المتلفز، حيث إمكانية الربح أكبر بكثير نظراً لكون الأنيمي المتلفز أطول (أقراص أكثر) ويصل لعددٍ أكبر من المشاهدين، ما يوصلنا إلى نموذج الأنيميات الليلية الحالي والذي كان ربما النموذج الأنجح حتى فترة قريبة. ينسب إلى إيفانجليون – Evangelion دورٌ فعال في إنجاح النموذج هذا، وفي زيادة معايير الجودة التلفازية بشكلٍ عام، ويزعم ناقد الأنيمي ريوسكي هيكاوا – Ryusuke Hikawa أن ما يسميها “ثورة الجودة” في صناعة الأنيمي بدأت في التسعينات. أعتقد أيضاً أن إيفانجليون ساهم في تثبيت نموذج لجنة الإنتاج المستعمل في كل أنيمي حالياً كذلك، لكن لست متأكداً من هذا، وهي قصةٌ أخرى لوقتٍ آخر بأية حال.